كثيرا ما يستهويني أن أسترجع شكل الماضي قبل الثورة التكنولوجية الهائلة
التي طرأت على العالم خاصة في وسائل الاتصال وأتسائل هل بالفعل أصبحت
حياتنا أفضل مما كانت عليه من قبل هل بفضل التكنولوجيا الحديثة أصبحنا
نعيش أهنأ بالا وأكثر هدوءًا وسلاما من داخلنا.
لا أحد يستطيع أن ينكر فضل التكنولوجيا الحديثة على العالم نعم أصبحت
حياتنا أكثر راحة وأكثر انسيابية وأكثر سلاسة من الماضى بكثير ولكن هل
أصبحنا في المقابل سعداء حقًا هل أشبعت رغباتنا وطموحتنا.
في الماضى القريب كانت وسائل الاتصال محددودة للغاية في حالة الانتقال
أو السفر إلى دولة أخرى إما عن طريق إرسال الخطابات أو المكالمات
الهاتفية على فترات متباعدة أو إرسال شرائط كاسيت يسجل عليها المسافر صوته
متحدثا عن أخباره مطمئنا أهله ولكن اليوم أصبحت وسائل الاتصال كثيرة جدا
ومتعددة في أي وقت تشاء تستطيع أن تتواصل مع أفراد أسرتك أو أصدقائك في أي
مكان مهما بعدت المسافات ليس بالصوت فقط ولكن بالصورة أيضا وبشكل مذهل
وكأنك مازلت تجلس بينهم.
لذا من المفترض أن التكنولوجيا الحديثة جاءت إلى العالم لتجعله أكثر
تقاربا وأقل تعقيدا لماذا إذن كثرت الشكوى من سيطرة التكنولوجيا على
حياتنا وأصبح الكثير منا يتضايق من فكرة انقياده الكامل لسحر التكنولوجيا.
في الواقع إننا في مجتمعاتنا العربية نفرط في استخدام الأشياء بدون أي
ضوابط وليس هذا فقط فحسب بل إننا أيضا نستخدم هذا التطور الهائل
للتكنولوجيا في الاتجاه الخاطئ من أجل التسلية والترفيه عن النفس فقط وليس
من أجل التقدم والتطوير من الذات والاطلاع على كل ما هو جديد لمنافسة
العالم الآخر نحو تحقيق النجاح.
ومن وسائل الاتصال التي ظهرت في السنوات الأخيرة ما يسمى بصفحات التواصل
الاجتماعي وعلى قدر ما لها من مميزات سواء في مجال العمل أو التواصل مع
الآخرين خاصة الذين يتواجدون في بلاد بعيدة إلا أنها استطاعت أن تجعل منا
جسدًا بلا روح جعلت كل واحد منا يعيش في عزلة عن الآخرين مكتفيا ببعض
الأصدقاء الذين يحادثهم من خلال شبكة التواصل الاجتماعي.
ومن الأشياء التي قد تصيبك بالاندهاش أيضا حين تدخل في أي مكان يعج
بالبشر كالقطار أو أحد المطاعم أو الجلوس في تجمع للعائلة أو للأصدقاء فتفاجأ بحالة من الصمت تسود المكان وكل فرد منهم منهمك في هاتفه لا يدري
ما يجري حوله الحقيقة إن وسائل التواصل الاجتماعي جعلتنا أبعد ما يكون عن
أقرب الناس إلينا وفي نفس الوقت قريبين من أناس قد لا نعرفهم من قبل سوى
من خلال هذه الصفحات.
حتى الأطفال لم يعودوا أطفالا كما كنا نعرفهم بالأمس يمارسون الكرة
وركوب الدراجات والتزحلق وغيرها من الألعاب التي اعتدنا عليها في مرحلة
الطفولة فاليوم أصبحنا نرى أطفالا منقادين للألعاب الحديثة وأصبح كل طفل
يحمل بيده ما يسمى “بالآيباد” مستغنيا به عن كل ما يمكن أن يحتاجه طفل في
عمره ومكتفيا به عن تكوين أصدقاء جدد مما يخلق أطفالا انطوائيين ولديهم
عزلة اجتماعية.
ومن العلاقات الإنسانية التي تأثرت أيضا وبشدة في عالمنا الحديث هي
العلاقة الزوجية فأصبحنا نسمع عن كثير من الشكاوى بين الزوج وزوجته لأن كل
طرف منهما قد انشغل عن الآخر نتيجة أن أحدهما أوكلاهما اكتفى بالحديث مع
الأصدقاء والتفاعل معهم عبر صفحات الدردشة بدلا من الاستمتاع بالحوار مع
بعضهم البعض سواء في شؤونهم الخاصة أو فيما يخص أبناءهم وحياتهم ومستقبلهم وأصبحت لغة الحوار بينهما شبه منعدمة ليسود الصمت بينهما ويهرب كل منهما
من مشاكله إلى هذا العالم الصاخب بدلا من مواجهة هذه المشكلات والعمل على
حلها.
الفرق بين الماضى واليوم يتمثل ببساطة في أمرين هما إدراك قيمة
الأشخاص وقيمة الوقت فاليوم أصبحنا لا ندرك قيمة أحبابنا فنعطي لأنفسنا
فرصة للاستمتاع بوجودهم في حياتنا ولا يوجد هناك أي اهتمام بالوقت المهدر
واستغلاله في قراءة كتب مفيدة أو ممارسة رياضة أو هواية ممتعة والجلوس مع
أبنائنا ومعايشة كل لحظات حياتهم وحل مشكلاتهم.
نحن هنا لانقلل أبدا من قيمة التطور التكنولوجي في عالمنا فهذا التطور
أضاف قيمة أفضل لحياتنا ولكننا ننوه فقط إلى سلبياتها نتيجة استخدامنا
الخاطئ لها دون وعي وإدراك لأثر هذه السلبيات على حياتنا في المستقبل
القريب.
فمن المذهل حقا أن تمر بك السنوات لتجد نفسك قد فاتك الكثير والكثير دون أن تستمتع بحياتك وتتفاجأ أن الوقت قد مر وأنت لم تشبع روحك بالحديث
والجلوس مع أحب الأشخاص لديك سواء كانوا أبويك أو زوجتك أو أبناءك أو
أصدقاءك لتكتشف أن العمر قد مضى وأنت لم تستمتع بلحظات وأحداث مرت عليك
وكأنك لم تكن حاضرا بها بل كنت حاضرا بجسدك فقط وأن أبناءك قد كبروا ولم
تشاركهم أهم اللحظات في حياتهم وأن زوجتك قد مر العمر بها ولم تعش معها
لحظات الود والحب في وقت احتياجها العاطفي لك كذلك أيضا سيدتي قد تتفاجئين
أن زوجك قد مرت عليه أوقات عصيبة كان فيها بحاجة إلى دعمك في الوقت الذي
انشغلتِ عنه لتتحدثين مع صديقاتك عن أحدث الموضات وأشهى الأكلات.
عزيزى القارئ أنصحك أن تفكر جيدا قبل فوات الأوان لا تجعل التكنولوجيا
الحديثة هي التي تقودك بل قُدها أنت وسخرها على حسب احتياجاتك دون أن تسرق
من عمرك أحلى اللحظات وأهم الذكريات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق